فصل: ما تقول السادة أئمة الدين في قوم يقولون: إن كلام الناس وغيرهم قديم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **


الجزء الثالث

  المقدمة

كتاب مذهب السلف القويم في تحقيق مسألة كلام الله الكريم مجموع من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام أبو الحسن بن عروة رحمه الله تعالى في الكواكب‏:‏ نقل من سؤال قدم من بلاد كيلان في مسألة القرآن إلى دمشق في سنة أربع وسبعمائة من جهة سلطان تلك البلاد على يد قاضيها لأجل معرفة الحق من الباطل عندما كثر عندهم الاختلاف والاضطراب ورغب كل من الفريقين في قبول كلام شيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية في هذا الباب فأملاه شيخ الإسلام في المجلس وكتبه أحمد بن محمد بن مري الشافعي بخط جيد قوي ثم إن كاتب هذه الأوراق اطلع على هذه الفتوى يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر سنة إحدى صورة السؤال‏:‏

  ما تقول السادة أئمة الدين في قوم يقولون‏:‏ إن كلام الناس وغيرهم قديم

في قوم يقولون‏:‏ إن كلام الناس وغيرهم قديم سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً فحشاً أو غير فحش نظماً أو نثراً ولا فرق بين كلام الله عز وجل وكلامهم في القدم إلا من جهة الثواب‏.‏

وقال قوم منهم بل أكثرهم‏:‏ أصوات الحمير والكلاب كذلك لما قرئ عليهم ما نقل عن الإمام أحمد رداً على قولهم تأولوا ذلك القول وقالوا إن أحمد إنما قال ذلك خوفاً من الناس فهل هم مصيبون أو مخطئون فإذا كانوا مخطئين فهل على ولي الأمر وفقه الله ردعهم وزجرهم عن ذلك أم لا وإذا وجب زجرهم فهل يكفرون إن أصروا أم لا وهل الذي نقل عن الإمام أحمد حق أو هو كما يزعمون أفتونا مأجورين‏.‏

أجاب الإمام العلامة شيخ الإسلام قامع البدع ومظهر الحق للخلق أبو العباس أحمد بن تيمية‏:‏ الحمد لله بل هؤلاء مخطئون في ذلك خطأً محرماً فاحشاً بإجماع المسلمين وقد قالوا منكراً من القول وزوراً بل كفراً وضلالاً ومحالاً ويجب نهيهم عن هذا القول الفاحش ويجب على ولاة الأمور عقوبة من لم ينته منهم عن ذلك جزاءً بما كسب نكالاً من الله فإن هذا القول مخالف للعقل والنقل والدين مناقض للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين وهي بدعة شنيعة لم يقلها قط أحد من علماء المسلمين لا من علماء السنة ولا من علماء البدعة ولا يقولها عاقل يفهم ما يقول ولا يحتاج في مثل هذا الكلام الذي فساده معلوم ببداهة العقل أن يحتج له بنقل عن إمام من الأئمة إلا من جهة أن رده وإنكاره منقول عن الأئمة وإن قائله مخالف للأمة مبتدع في الدين ولتزول بذلك شبهة من يتوهم أن قولهم من لوازم قول أحد من السلف وليعلم أنهم مخالفون لمذاهب الأئمة المقتدى بهم بل قول الأئمة مناقض لقولهم فإن الأئمة كلهم نصوا على أن كلام الآدميين مخلوق بل نص أحمد على أن فعال العباد مخلوقة عموماً وعلى كلام الآدميين خصوصاً لم يمتنعوا عن هذا الإطلاق لأجل الشبهة التي عرضت لمثل هؤلاء المبتدعة‏.‏

ثم ساق الشيخ كلاماً طويلاً إلى أن قال‏:‏ ومن المشهورفي كتاب صريح السنة لمحمد بن جرير الطبري - وهو متواتر عنه - لما ذكر الكلام في أبواب السنة قال‏:‏ وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في قوله الشفا والغنى وفي إتباعه الرشد والهوى ومن قام مقام الأئمة الأول‏:‏ أبي عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال‏:‏ سمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ اللفظية جهمية‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ سمعت من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يحكون عنه أنه كان يقول‏:‏ من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ القول في ذلك عندنا لا يجوز أن يقول أحد غير قوله إذ لم يكن إمام قائم به سواه وفيه كفاية لكل متبع وقناعة لكل مقتنع وهو الإمام المتبع‏.‏

وقال صالح بن الإمام أحمد‏:‏ بلغ أبي أن أبا طالب يحكي عن أبي أنه يقول‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق فقال‏:‏ ابعث إلى أبي طالب فوجهت إليه فجاء فقال له أبي‏:‏ أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق وغضب أبي وجعل يرتعد فقال له‏:‏ قرأت عليك‏:‏ ‏"‏ قل هو الله أحد ‏"‏ فقلت لي‏:‏ هذا ليس بمخلوق فقال له‏:‏ فلم حكيت عني أني قلت‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق وبلغني أنك وضعت ذلك في كتابك وكتبت به إلى قوم فإن كان في كتابك فامحه أشد المحو واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم أني لم أقل هذا وغضب وقال له‏:‏ تحكي عني ما ألم أقل فجعل فوزان يعتذر إليه‏.‏

وانصرف من عنده وهو مرعوب فعاد أبو طالب فذكر أنه حكى ذلك من كتابه وكتب إلى أولئك القوم يخبرانه وهم علي أبي عبد الله في الحكاية عنه قال أبو عبد الله‏:‏ القرآن حيث تصرف غير مخلوق‏.‏

وقال عبد الوهاب الوراق‏:‏ من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فإنه يهجر ولا يكلم ويحذر منه وذكر الخلال في كتاب القراءة عن إسحاق بن إبراهيم قال‏:‏ قال أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - وكنت سألته عن قوله‏:‏ من لم يتغن بالقرآن قال‏:‏ هو الرجل يرفع صوته به فهذا معناه إذا رفع صوته فقد تغنى به وعن منصور وصالح أنه قال لأبيه يرفع صوته بالقرآن بالليل قال‏:‏ نعم إن شاء رفع ثم ذكر حديث أم هانئ‏:‏ كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على عريشي من الليل‏.‏

وقال الأثرم‏:‏ سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان فقال‏:‏ كل شيء محدث فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت رجل لا يتكلفه‏.‏

قال‏:‏ وأما قول القائل أن أحمد قال ذلك خوفاً من الناس فبطلان هذا القول يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد وقائل هذا هو إلى العقوبة البليغة أحوج منه إلى جوابه لافترائه على الأئمة فإن الإمام أحمد صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق فإنه لم يكن يأخذه في الله لومة لائم حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد فيقال قال الإمام أحمد وهذا مذهب الإمام أحمد لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ‏"‏ فإنه أعطي من الصبر واليقين وينال به الإمامة في الدين وقد تداوله ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة ما لا يحصيه إلا الله فبعضهم تسلط عليه بالحبس وبعضهم بالتهديد الشديد وبعضهم يعده بالقتل وبغيره من الرعب وبعضهم بالترغيب في الرياسة والمال وبعضهم بالنفي والتشريد من وطنه وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم ولا استعمل التقية بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ما دفع به البدع المخالفة لذلك مما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه ولهذا قال بعض علماء الشام لم يظهر أحد ما جاء به الرسول كما أظهره أحمد بن حنبل فكيف يظن به أنه كان يخاف هذه الكلمة التي لا قدر لها وأيضاً فمن أصوله أنه لا يقول في الدين قولاً مبتدعاً فكيف بكلمة ما قالها أحد قبله‏.‏

قال‏:‏ فالمنتسبون إلى السنة والحديث وإن كانوا أصلح من غيرهم وفيهم من الخير ما لا يوجد في غيرهم فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل فكما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم من الخير فهو في المسلمين أكثر وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر فكذلك المنتسبون إلى السنة قد يوجد فيهم من الخير ما لا يوجد في غيرهم وإن كان في غيرهم خير فهو فيهم أكثر وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر‏.‏

قال‏:‏ ويجب القطع بأن كلام الآدميين مخلوق ويطلق القول بذلك إطلاقاً ولا يحتاج إلى تفصيل بأن يقال نظمه أو تأليفه أو غير ذلك وذلك لأن كلام المتكلم هو عبارة عن ألفاظه ومعانيه وعامة ما يوجد في كتاب الله وسنة رسوله وكلام السلف وسائر الأمم عربهم وعجمهم فإنه عند إطلاقه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً لشموله لهما فيقال عن كلام الله وهو القرآن هذا كلام الله وهذا كلام فلان‏.‏

قال‏:‏ وأما الأمة الوسط الباقون على الفطرة فيقولون لما بلغه المبلغ عن غيره وأداه‏:‏ هذا كلام ذاك لا كلامك وإنما بلغته بقولك كما قال أبو بكر الصديق لما خرج على قريش فقرأ ‏"‏ ألم غلبت الروم في أدنى الأرض ‏"‏ الآية‏.‏

فقالوا هذا كلامك أو كلام صاحبك فقال‏:‏ ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله‏.‏

وفي سنن أبي داود من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول‏:‏ ‏"‏ ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل ‏"‏ فبين أن ما يبلغه ويتلوه هو كلام الله لا كلامه وإن كان يبلغه بأفعاله وصوته والأمم متفقون على هذا إذا سمعوا من يروي قصيدة أو كلاماً أو قرآناً أو مسألة قالوا هذا كلام فلان وقوله فإنه هو الذي اتصف به وألفه وأنشأه‏.‏

قال‏:‏ وكذلك من تبع آباءه الذين سلفوا من غير اعتصام منه بالكتاب والسنة والإجماع فإنه ممن ذمه الله في كتابه في مثل قوله‏:‏ ‏"‏ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ‏"‏ وفي قوله‏:‏ ‏"‏ يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ‏"‏ الآية‏.‏

وكذلك من اتبع الظنون والأهواء معتقداً أنها عقليات وذوقيات فهو ممن قال الله فيه‏:‏ ‏"‏ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ‏"‏ وإنما يفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه الكتاب المنزل من السماء والرسول المؤيد بالمعجزات كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ‏"‏ الآية‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ إن الذين آمنوا والذين هادوا ‏"‏ الآية‏.‏

فأخبر سبحانه عمن مضى ممن كان متمسكاً بدين حق من اليهود والنصارى والصابئين وعن المؤمنين بعد مبعث محمد من جميع الأمم إن من تلبس بهذه الخصال من سائر الأمم وهي جماع الصلاح وهي الإيمان بالله والبعث والمعاد والإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وهو أداء المأمورات وترك المحظورات فإن له أجره عند ربه ولا خوف عليه مما أمامه ولا يحزن على ما وراءه وإسلام الوجه هو إخلاص الدين لله وهو عبادته وحده لا شريك له وهو حقيقة قول‏:‏ ‏"‏ إياك نعبد وإياك نستعين ‏"‏ وهو محسن فالأول وهو إسلام الوجه وهو النية وهذا الثاني وهو الإحسان هو العمل الصالح‏.‏

وهذا الذي ذكره في هاتين الآيتين هو الإيمان العام والإسلام العام الذي أوجبه على جميع عباده من الأولين والآخرين وهو دين الله العام الذي بعث به جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب‏.‏

فكان أول بدعة حدثت في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنوب فإنهم يكفرون الفاسق الملي فزعمت الخوارج والمعتزلة أن الذنوب الكبيرة - ومنهم من قال والصغيرة - لا تجامع الإيمان أبداً بل تنافيه وتفسده كما يفسد الأكل والشرب الصيام قالوا‏:‏ والإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور فمتى بطل بعضه بطل كله كسائر المركبات فيكون العاصي كافراً لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر وقالت المعتزلة‏:‏ ننزله منزلة بين المنزلتين‏:‏ نخرجه من الإيمان ولا ندخله في الكفر وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية فقالوا‏:‏ ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة ولا ترك المحظورات البدنية فإن الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقصان بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة والمقتصدين والمقربين والظالمين‏.‏

وأما السلف والأئمة فاتفقوا على أن الإيمان قول وعمل فيدخل في القول قول القلب واللسان وفي العمل عمل القلب والأركان وقال المنتصرون لمذهبهم أن للإيمان أصولاً وفروعاً وهو مشتمل على أركان وواجبات ومستحبات بمنزلة اسم الحج والصلاة وغيرها من العبادات فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل أو ترك مثل الإحرام ومثل ترك محظوراته والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى والطواف بالبيت وبين الجبلين المكتنفين له وهما الصفا والمروة‏.‏

ثم الحج مع هذا اشتمل على أركان متى تركت لم يصح الحج كالوقوف بعرفة وعلى ترك محظور متى فعله فسد حجه وهي الوطء ومشتمل على واجبات من فعل وترك يأثم بتركها عمداً ويجب مع تركها لعذر أو غيره الجبران بدم كالإحرام من المواقيت المكانية والجمع بين الليل والنهار بعرفة وكرمي الجمار ونحو ذلك ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها ولا يأثم بتركها ولا توجب دماً مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه وسوق الهدي وذكر الله ودعائه في تلك المواضع وقلة الكلام إلا في أمر أو نهي أو ذكر‏:‏ من فعل الواجب وترك المحظور فقد تم حجه وعمرته لله وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هذا العمل لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل منه وأتم حجاً وعملاً وهو سابق مقرب ومن ترك المأمور وفعل المحظور لكنه أتى بأركانه وترك مفسداته فهو حج ناقص يثاب على ما فعله من الحج ويعاقب على ما تركه وقد سقط عنه أصل الفرض بذلك مع عقوبته على ما ترك ومن أخل بركن أو فعل مفسداً فحجه فاسد لا يسقط به فرضه بل عليه إعادته مع أنه قد تنازعوا في إثباته على ما فعله وإن لم يسقط به الفرض والأشبه أنه يثاب عليه فصار الحج ثلاثة أقسام كاملاً بالمستحبات وتاماً بالواجبات فقط وناقصاً عن الواجب والفقهاء يقسمون الوضوء إلى كامل فقط ومجزئ ويريدون بالكامل ما أتى بمفروضه ومسنونه بالمجزئ ما اقتصر على واجبه فهذا في الأعمال المشروعة وكذلك في الأعيان المشهودة فإن الشجرة مثلاً اسم لمجموع الجذع والأغصان وهي بعد ذهاب الورق شجرة كاملة وبعد ذهاب الأغصان شجرة ناقصة فليكن مثل ذلك في مسمى الإيمان‏.‏

والذين قالوا الإيمان ثلاث درجات‏:‏ إيمان السابقين المقربين وهو ما أتي فيه بالواجبات والمستحبات من فعل وترك وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين وهو ما ترك صاحبه فيه بعض الواجبات أو فعل فيه بعض المحظورات ولهذا قال علماء السنة‏:‏ لا يكفر أحد بذنب إشارة إلى بدعة الخوارج الذين يكفرون بالذنب وإيمان الظالمين لأنفسهم وهو من أقر بأصل الإيمان وهو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله وهو شهادة أن لا إله إلا الله ولم يفعل المأمورات ويجتنب المحظورات فإن أصل الإيمان التصديق والانقياد فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن وقد تواتر في الأحاديث‏:‏ ‏"‏ أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان - مثقال حبة من خير - مثقال ذرة من خير ‏"‏ و ‏"‏ الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ‏"‏ فعلم أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة وإن قليله يخرج به صاحبه من النار إن دخلها وليس كما يقوله الخارجون عن مقالة أهل السنة أنه لا يقبل التبعيض والتجزئة بل هو شيء واحد إما أن يحصل كله وإما أن لا يحصل منه شيء‏.‏

واعلم أن عامة السور المكية التي أنزلها الله بمكة هي في هذا الإيمان العام المشترك بين الأنبياء جميعهم وهذا القدر المشترك هو في بعض الملل أعظم قدراً ووصفاً فإن ما جاء به محمد من صفات الله وأسمائه وذكر اليوم الآخر أكمل مما جاء به سائر الأنبياء ومنه ما تختلف الشرائع والمناهج كالقبلة والنسك ومقادير العبادات وأوقاتها وصفاتها والسنن والأحكام وغير ذلك فمسمى الإيمان والدين في أول الإسلام ليس هو مسماه في آخر زمان النبوة بل مسماه في الآخر أكمل من مسماه في أول البعثة وأوسطها كما قال تعالى في آخر الأمر‏:‏ ‏"‏ اليوم أكملت لكم دينكم ‏"‏ وقال بعدها‏:‏ ‏"‏ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ‏"‏ ولهذا قال الإمام أحمد‏:‏ كان الإيمان في أول الإسلام ناقصاً فجعل يتم وهكذا مسمى الإيمان والدين قد يتنوع بحسب الأشخاص وبحسب أمر الله كلاً منهم وبحسب ما يفعله مما أمر به وبحسب إقباله وحضوره وإخلاصه فإن المؤمنين من الأولين والآخرين مشتركون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ولكن بينهم تفاوت ما في القلوب إذا ذكر الله وما في اليوم الآخر ما تفاوت به الإيمان فعند ذكر الجنة والنجاة من النار وذم من ترك بعضه ونحو ذلك يزداد الإيمان الواجب لقوله‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ‏"‏ الآيات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله في الجنة‏:‏ ‏"‏ أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ‏"‏‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ‏"‏ الحديث نفى الإيمان الواجب عنه الذي يستحق به الجنة ولا يستلزم ذلك نفي أصل الإيمان وسائر أجزائه وشعبه هذا معنى قولهم نفي كمال الإيمان وحقيقة ذلك أن الكمال الواجب ليس هو الكمال المستحب المذكور في قول الفقهاء‏:‏ الغسل كامل ومجزئ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ من غشنا فليس منا ‏"‏ ليس المراد به أنه كافر كما تأولته الخوارج ولا أنه ليس من خيارنا كما تأولته المرجئة ولكن المضمر يطابق المظهر والمظهر هو المؤمنون المستحقون للثواب السالمون من العذاب والغاش ليس منا لأنه متعرض لعذاب الله وسخطه‏.‏

إذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب في الجملة لعجزه عنه إما لعدم تمكنه من العلم أو لعدم تمكنه من العمل لم يكن مأموراً بما يعجز عنه ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل بمنزلة صلاة المريض والخائف وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه وبه أمروا وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أفضل وأكمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ‏"‏ رواه مسلم من حديث أبي هريرة وفي حديث حسن السياق‏:‏ ‏"‏ إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس ‏"‏ ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به علماً واعتقاداً وإن لم يعمل به‏.‏

قال فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن بالسيئات وأنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره وإن مصائب الدنيا تكفر الذنوب وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وأنه يغفر الذنوب جميعاً ويغفر ما دون الشرك وأن الصدقة يبطلها المن والأذى وأن الرياء يبطل العمل ونحو ذلك فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها كما قد جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة وبهذا يتبين أنا نشهد بأن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً على الإطلاق والعموم ولا نشهد لمعين أنه في النار لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه‏.‏

وفائدة هذا الوعيد أن هذا الذنب سبب مقتضٍ لهذا العذاب والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه‏.‏

يبين هذا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها وثبت عنه في الصحيح أن رجلاً كان يكثر شرب الخمر فلعنه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ‏"‏ فنهى عن لعن هذا المعين وهو مدمن الخمر لأنه يحب الله ورسوله وقد لعن أولاً شاربها على العموم‏.‏

قال فمسألة تكفير أهل البدع والأهواء متفرعة على هذا الأصل فنبدأ بمذاهب الأئمة في ذلك قبل التنبيه على الحجة فنقول‏:‏ المشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب وحقيقة قولهم جحود الصانع وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله بل وجميع الرسل ولهذا قال عبد الله بن المبارك‏:‏ إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية‏.‏

وقال غير واحد من الأئمة‏:‏ أنهم أكفر من اليهود والنصارى وبهذا كفروا من يقول أن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة وأن الله ليس على العرش وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته وأما المرجئة فلا تختلف نصوصه أنه يكفرهم فإن بدعهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع وكذلك الذين يفضلون علياً على أبي بكر لا يختلف قوله أنه لا قال‏:‏ وعنه في تكفير من لم يكفر الجهمية روايتان أصحهما ما لا يكفر والجهمية عند كثير من السلف مثل ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب أحمد ليسوا من الثلاث والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة بل أصول هذه الفرق هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية‏.‏

قال‏:‏ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها‏.‏

قال‏:‏ وفي الإدلالة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب من هذه الأمة مخطئاً على خطأه وإن عذب المخطيء من غير هذه الأمة فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال‏:‏ لم فعلت هذا قال‏:‏ من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له ‏"‏ وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أصحاب الصحيح والمساند من حديث أبي سعيد وحذيفة وعقبة بن عامر وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيد العلم اليقيني وإن لم يحصل ذلك لغيرهم فهذا الرجل قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة من يصل إلى الحالة التي أمر أهله أن يفعلوها به وإن من أحرق وذري لا يقدر الله أن يعيده ويحشره إذا فعل به ذلك وأنه ظن ذلك ظناً ولم يجزم به‏.‏

وهذا أصلان عظيمان‏:‏ أحدهما متعلق بالله وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير والثاني متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ولو صار إلى ما يقدر صيرورته إليه مهما كان فلا بد أن الله يحييه ويجزيه بأعماله فهذا الرجل مع هذا لما كان مؤمناً بالله في الجملة ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت فهذا عمل صالح وهو خوفه من الله أن يعاقبه على تفريط غفر له بما كان معه من الإيمان بالله واليوم الآخر وإنما أخطأ من شدة خوفه كما أن الذي وجد راحلته بعد إياسه منها أخطأ من شدة فرحه‏.‏

وقد وقع الخطأ كثيراً لخلق من هذه الأمة واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام وكذلك لبعضهم في قتال بعض وتكفير بعض أقوال معروفة وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ ‏"‏ بل عجبتُ ‏"‏ ويقول أن الله لا يعجب فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال‏:‏ إنما شريح شاعر يعجبه علمه كان عبد الله أفقه منه وكان يقرأ ‏"‏ بل عجبت ‏"‏ فهذا قد أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة لله دل عليها الكتاب والسنة واتفقت الأمة على أن شريحاً إمام من الأئمة وكذلك بعض العلماء أنكر حروفاً من القرآن كما أنكر بعضهم‏:‏ ‏"‏ أولم ييأس الذين آمنوا ‏"‏ فقال‏:‏ إنما هي ‏"‏ أولم يتبين الذين آمنوا ‏"‏ وآخر أنكر ‏"‏ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ‏"‏ فقال‏:‏ إنما هي ‏"‏ ووصى ربك ‏"‏ وبعضهم كان حذف المعوذتين وآخر يكتب سورتي القنوت وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع وكذلك الخطأ في الفروع العلمية فإن المخطئ فيها لا يكفر ولا يفسق بل ولا يأثم وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يجعل المخطئ فيها آثماً وبعض المتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب فهذا القولان شاذان ولم يقل أحد بتكفير المخطئ فيها فقد أخطأ بعض السلف فيها مثل خطأ بعضهم في بعض أنواع الربا واستحلال آخرين القتال في الفتنة وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث - إلى قوله - ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً ‏"‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ‏"‏‏.‏

والسنة والإجماع منعقد على أن من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة والنصوص إنما وجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم مع أنها أيضاً من أصول الإيمان فإن الإيمان الذي يوجب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين والجاحد لها كافر بالاتفاق مع أن المجتهد في بعضها إذا أخطأ ليس بكافر بالاتفاق وإذا كان لا بد من إلحاقه بأحد الصنفين فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهاً من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب مع العلم بأن كثيراً من أهل البدع منافقون النفاق الأكبر فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون وأولئك في الدرك الأسفل من النار‏.‏

بل أصل هذه البدع من المنافقين الزنادقة ممن يكون أصل زندقته مأخوذاً عن الصابئين والمشركين وأصل هؤلاء هو الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة وابتغاء الهدى في غير ذلك ممن كان هذا أصله فهو يعد الرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة كما يقوله قوم من المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة فنفي الصفات كفر والتكذيب بأن الله لا يرى في الآخرة كفر وإنكار أن يكون الله على العرش كفر وكذلك ما كان في معنى ذلك كإنكار تكليم الله لموسى واتخاذ الله إبراهيم خليلاً‏.‏

قال‏:‏ فإن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب وأما الدنيا فإنما يشرع فيها ما شرع من العقوبات دفعاً للظلم والعداون وكسراً للنفوس العاتية الباغية ودفعاً لشر الجبار الطاغي وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير ملتزمة لعقوبة الآخرة ولا بالعكس ولهذا أكثر السلف على قتل الداعي إلى البدعة لما يجري على يديه من الفساد في الدين سواء قالوا هو كافر أو ليس بكافر‏.‏

وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة التي يبين بها لهم أنهم مخالفون للرسول وإن كانت مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر وهكذا الكلام في جميع تكفير المعينين مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان والعمل الصالح ما ليس في بعض والله أعلم‏.‏